عندي
أمر يؤرقني كثيراً ، وهو أنني مشترك في كثير من منتديات " الإسلامية ،
والتي فيها أقسام للنشيد الإسلامي " ، وهي إسلامية – يفترض – ، أكاد أجن من
كثرة الأسماء والتعليقات التي أقرؤها ، والتي تدل على شدة تعلق الفتيات
والنساء ، وفتنتهن بهؤلاء المنشدين .
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
لا شك أن تشريع الله تعالى
للأحكام فيه حكَم جليلة ، ومقاصد عظيمة ، وفوائد نافعة ، وهو سبحانه
وتعالى أعلم بعباده ، وهو أعلم بما ينفعهم فحثهم عليه ، وبما يضرهم فنهاهم
عنه .
ومن نعَم الله علينا أنه
سبحانه أراد لنا الخير , وأراد لنا العفة ، والطهارة الباطنية والظاهرية ،
وأراد لنا السلامة من الآفات ، قال تعالى : ( وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) المائدة/ 6 .
وحتى تتحقق الطهارة التي
أرادها الله لعباده : فإنه شرع أحكاماً من تمسك بها تطهَّر ، ومن تركها
تلوَّث بقدر تركه ، وتهاونه في الاستقامة عليها ، ومن ذلك : أنه تعالى
حرَّم خلوة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية، وحرَّم الاختلاط بين الجنسين
؛ وحرَّم نظر الرجال إلى النساء الأجنبيات , ونظر النساء إلى الرجال
الأجانب ، كما قال تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى
لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) النور/ 30 ، 31 .
ولا شك في تحريم هذا النظر ، لا سيما إذا اقترن بشهوة ، وإعجاب .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
( ذَلِكَ ) الحفظ للأبصار
والفروج ، ( أَزْكَى لَهُمْ ) أطهر ، وأطيب ، وأنمى لأعمالهم ؛ فإنَّ من
حفظ فرجَه ، وبصرَه : طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش ، وزكت
أعماله ، بسبب ترك المحرم ، الذي تطمع إليه النفس ، وتدعو إليه ، فمن ترك
شيئا لله : عوَّضه الله خيراً منه ، ومن غض بصره عن المحرم : أنار الله
بصيرته ؛ ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدماته ، مع داعي
الشهوة : كان حفظه لغيره أبلغ ، ولهذا سماه الله حفظاً ، فالشيء المحفوظ إن
لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه ، وعمل الأسباب الموجبة لحفظه : لم ينحفظ
، كذلك البصر والفرج ، إن لم يجتهد العبد في حفظهما : أوقعاه في بلايا
ومحن .
" تفسير السعدي " ( ص 565 ) .
وقال ابن القيم - رحمه الله - :
والنظر أصل عامة الحوادث
التي تصيب الإنسان ؛ فإن النظرة تولِّد خطرة ، ثم تولد الخطرة فكرة ، ثم
تولد الفكرة شهوة ، ثم تولد الشهوة إرادة ، ثم تَقْوَى فتصبر عزيمة جازمة ،
فيقع الفعل ولا بد ، ما لم يمنع منه مانع ، وفي هذا قيل : " الصبر على غض
البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده " .
" الجواب الكافي " ( ص 106 ) .
وهذا هو واقع من يتعلق
قلبها بمغنٍّ ، أو لاعب ، أو ممثل ، أو يتعلق قلبه بمغنية ، أو ممثلة ، فإن
حالهم لا يخفى ، فقلوبهم امتلأت بالحسرات ، وقد أدمنوا التفكير في اللقاء ،
والمشاهدة لصورة معشوقهم ، وقد يموت بسبب كمده ، وحزنه ، وكم وقع أولئك في
الكبائر لأجل هذه التعلق القلبي ، وحال تلك الأوساط العفنة غير مستور .
والذي يؤلمنا أشد الإيلام :
أن تنتقل تلك الأمراض ذاتها بين بعض الملتزمات من الأخوات ، وقد توصل
الشيطان إلى إيقاعهن في ذات الفتنة التي أوقع غيرهن من التعلق باللاعبين ،
والممثلين ، والمغنين ، ولكن لأنهن ملتزمات – في الظاهر – فإنه أوقعهن في
التعلق بالمنشدين ! والحال هو الحال ، بل هو أسوأ ؛ لأنه صادر من مدعية
للالتزام ، والاستقامة ، وانظر إليها كيف رضيت لنفسها بلقب " عاشقة فلان " !
وانظر إلى الأخرى كيف نذرت نفسها لتجميع صور معشوقها على جوالها حتى بلغ
عددها ( 300 ) صورة ، وهلم جرا !!
وقد تجرأ هؤلاء على تلك المعاصي بسبب عدم وجود الواعظ الداخلي الذي ينهاهم عن الفحشاء والمنكر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبيِّنا خطورة الافتنان بأصحاب الخلقة الجميلة - :
ولهذا لا يكون عشق الصور
إلا من ضعف محبة الله ، وضعف الإيمان , والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن
امرأة العزيز المشركة , وعن قوم لوط المشركين ، والعاشق المتيم يصير عبداً
لمعشوقه ، منقاداً له ، أسير القلب له .
"مجموع الفتاوى" ( 15 / 293 )، وينظر: "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ( 1 / 64 ) .
وما قاله أولئك العلماء
الأعلام في عشق الصور يقصد به " التعلق بالهيئة " ، والتصور لها في الذهن
دوماً ، ولم يكن في زمانهم هذه الصور المطبوعة على أوراق بأبهى الألوان ،
وأحسن الأشكال ، وبحركات مختلفة للمصوَّر المعشوق ! ولا شك أن هذه الصور
داخلة في كلامهم رحمهم الله ، وقد نقلنا في أكثر من إجابة عن العلماء
المعاصرين تحريم الصور الفوتوغرافية لذوات الأرواح ، وخاصة إذا ترتب على
تلك الصور فتنة ، فهذا مما لا خلاف في حرمته بين أحدٍ من أهل العلم .
ثانيا :
من أسباب فتنة النساء
بالمنشدين – كذلك - : الصوت الحسن ، وهو هنا صوت "المنشد" والذي لا يختلف
كثيراً عن " المغني " ، وتحصل الفتنة في هيئته ، وفي حركاته ، وفي المؤثرات
المستعملة مع نشيده ، مما يكون له أبلغ الأثر في افتتان النساء .
ولذلك أنكر العلماء النشيد
المعاصر الذي انتشر حتى صار فتنة من فتن العصر ، فبعد أن كانت الأناشيد
ذات معان إيمانية ، أو جهادية ، أو علمية : صارت الآن – في كثير منها –
مشابهة لأغاني الفسَّاق ، من حيث ترقيق الصوت ، ووضع صورة المنشد على غلاف
الشريط ، وعمل الفيديو كليب معها ، وأحسنهم حالاً من يستعمل المؤثرات التي
تشبه في صوتها وأثرها الآلات الموسيقية ، ولم يعُد للمعاني أي اعتبار ، بل
يُبحث عن اللحن والمؤثرات .
ثالثا :
كما حذَّرنا النساء من
مغبة الوقوع فيما حرَّم الله عليهم ، من النظر المحرم ، والتعلق المحرَّم ،
والعشق المحرَّم : فإننا نحذِّر المنشدين المعاصرين ، وأنهم يتحملون وزراً
كبيراً بما يحدث من تعلق النساء بهم ، فنشيدهم أقرب لأغاني الفساق ،
ولباسهم وحركاتهم في النشيد تدفع النساء للفتنة بهم ، مع ما يضعه بعضهم من
مساحيق التجميل ! ، ولا شك أن ظهورهم بهذه الطريقة لا يجوز .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وأبلغ من ذلك : أنه – أي :
عمر بن الخطاب - نفى مَن شبَّب به النساء ، وهو " نصر بن حجاج " ، لمَّا
سمع امرأة شببت به ، وتشتهيه , ورأى هذا سبب الفتنة ، فجزَّ شعره ؛ لعل سبب
الفتنة يزول بذلك ، فرآه أحسن الناس وجنتين ، فأرسل به إلى البصرة ، ثم
إنه بعث يطلب القدوم إلى وطنه ويذكر ألا ذنب له ، فأبى عليه ، وقال : "
أمَا وأنا حي : فلا " ؛ وذلك أن المرأة إذا أُمرت بالاحتجاب ، وترك التبرج ،
وغير ذلك مما هو من أسباب الفتنة بها ولها : فإذا كان في الرجال من قد صار
فتنة للنساء : أُمر أيضا بمباعدة سبب الفتنة ، إما بتغيير هيئته , وإما
بالانتقال عن المكان الذي تحصل به الفتنة فيه ؛ لأنه بهذا يحصن دينه ،
ويحصن النساء دينهن .
" الاستقامة " ( 1 / 362 ) .
خامساً:
من رامت من الأخوات النجاة
بنفسها ، ودينها ، من تلك الفتنة الطاغية ، من التعلق بالصور ، وأصحابها ،
وأصواتهم ، ورامت المحافظة على قلبها من الأمراض : فلتتخلص مما معها من
صور لذلك المنشد وغيره ، ولتقطع السماع له بالكلية – حتى لو قرأ القرآن ! -
، ولتغيِّر من لقبها الفاحش ، والذي عبَّرت فيه عن مكنونها تجاهه ، ولتبدأ
ببرنامج تجلية لقلبها ، بسماع القرآن ، ودروس العلم ، مع التعجيل بالزواج ؛
فإنه الحل الشرعي لصرفها عن التعلق المحرم ، ولتملأ حياتها بالنافع المفيد
، وبعدها فسيكون في قلبها البغض لتلك الصور ، وتلك المعاصي ، وليكن ذلك
قبل أن يفوت عليها الوقت .
وهذه وصايا ، ونصائح ، من شيخ الإسلام ابن تيمية ، لمن أراد إبراء نفسه من سهام إبليس .
فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة ؟ .
فأجاب :
مَن أصابه جرح مسموم : فعليه بما يخرج السم ، ويبرئ الجرح بالترياق ، والمرهم ، وذلك بأمور ، منها :
الأول : أن يتزوج ، أو
يتسرَّى ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نظر أحدكم إلى محاسن
امرأة فليأت أهله فإنما معها مثل ما معها ) ، وهذا مما ينقص الشهوة ، ويضعف
العشق .
الثاني : أن يداوم على
الصلوات الخمس ، والدعاء ، والتضرع وقت السحر ، وتكون صلاته بحضور قلب ،
وخشوع ، وليكثر من الدعاء بقوله : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا
مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك " ؛ فإنه متى أدمن الدعاء ،
والتضرع لله : صرف قلبه عن ذلك ، كما قال تعالى ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )
يوسف/ من الآية 24 .
الثالث : أن يبعد عن مسكن
هذا الشخص ، والاجتماع بمن يجتمع به ، بحيث لا يَسمع له خبراً ، ولا يقع له
على عين ولا أثر ، فإن " البُعد جفا " ، و " متى قلَّ الذِّكر ضعف الأثر
في القلب " ، فليفعل هذه الأمور ، وليطالع بما تجدد له من الأحوال .
" مجموع فتاوى ابن تيمية " ( 32 / 5 ، 6 ) .
سادساً:
1. على الأخ السائل أن
يَحْذر من تلك المنتديات ، إذا كان يخشى من الافتتان ، أو التأثر بها ،
وليقتصر على المنتديات التي تخلو من تلك المخالفات ؛ وكذلك عليه أن لا ييأس
من واجب النصح والتذكير ؛ فالدين النصيحة .
2. والنصيحة لمسئولي تلك
المنتديات ، والمشرفين عليها : أن يتقوا الله تعالى , وأن يعلموا أن الله
سائلهم عما استرعاهم عليه ، فعليهم أن يجنبوا منتدياتهم وسائل الفتنة ،
وأسبابها ، من عرضٍ لتلك الصور , وتلك " المقاطع " - الكليبات - والتي
يترتب عليها مفاسد كثيرة .
والله نسأل أن يثبتنا ، وإياكم , وأن يصرف عنا وعنكم الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .
والله أعلم